نُشِر هذا المقال لأول مرة بمجلة الهلال المصرية في أغسطس 1978م/ شعبان 1398هـ ضمن عدد تاريخي جاء تحت عنوان «محمد رؤية جديدة»، أصدره الدكتور حسين مؤنس، رئيس تحرير المجلة، وشارك فيه أكثر من 40 كاتبًا وأديبًا وعالمًا من ألمع كتاب مصر. (يتوفر نسخة صوتية للمقال في نهايته)
محمد صلى الله عليه وسلم أُذُن الخير التي استقبلت آخر رسائل السماء لهداية الأرض، ولسان الصدق الذي بلَّغ الحق إلى الخلق، فكان بحق مسك الختام للأنبياء والمرسلين.
أحمدك ربي، وأستعينك، وأسألك أن توفقني في كل ما آتي من الأمر وفي كل ما أدع. فكما جعلتَ – يا ربي – صمتي زمنًا طويلًا فكرًا، فاجعل نطقي لك ذكرًا، فإنك سبحانك تُعبد بالصمت قبل أن تُعبد بالنطق.
وأصلي وأسلم على سيدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة الله للعالمين، الذي وصفه ربه: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}.
أحمدك ربي حمد العبودية الصدق والربوبية الحق. سبحانك تنزهت عن كل صفات الحادث، فلست – كَلَا – له أجزاء، لكنك أحد، ولست كليًّا له أفراد؛ لأنك واحد.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد أُذُن الخير التي استقبلت آخر رسائل السماء لهداية الأرض، ولسان الصدق الذي بلَّغ الحق إلى الخلق، فكان بحق مسك الختام للأنبياء والمرسلين.
وما أجمل أن يلتقي المسلمون على ذكرى المناسبات الإسلامية المباركة في كل عام: فإن عطاء الأحداث في الإسلام ليس مناسبة تحيا وتفوت بفوات الزمن، وبخاصة مناسبة شهر رمضان المعظم، لكنها تتكرر كل عام كالكلمة الطيبة: {ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها}.
فليست العبرة من أحداث المسيرة الشريفة التي نلتقطها هذا العام كالعبرة التي التقطناها في الأعوام الماضية، فكل وقت له عطاؤه من منهج الله؛ فهو يعطي كل جيل عطاءً على قدر استعداده في الصفاء والفهم والمدارسة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة لأنه كره مقامه بها، بل قال وهو يغادرها: «إني لأعلم يا مكة أنك أحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
لقد جاءت الرسالة المحمدية بعد موكب طويل من الرسل أبلغوا رسالات ربهم إلى أقوامهم، ومضت فترة غلبت فيها الشهوات على الإنسان، وانطمست النفس اللوامة ففسد المجتمع.
وحين تنطمس النفس اللوامة لغلبة الشهوات على الإنسان، وحين يفسد المجتمع ولا توجد طائفة تأخذ بيد النفس اللوامة؛ فإن السماء تتدخل برسول جديد، وكان هذا الرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء رسول الله وأعلن الدعوة في مكة المكرمة؛ لأن فيها بيت الله الحرام الكعبة المشرفة، ولكن العجيب أن النصرة لم تكن في مكة، بل جاءت في المدينة المنورة حيث انطلق منها نور الإسلام، مع أنه لم يكن مبعوثًا فيها، بل كان مبعوثًا في مكة.
وشاءت حكمة الله أن يجعل الصراخ بالدعوة في مكة أولًا بين القبائل الذين تهيبهم العرب جميعًا، وجعل النصرة في المدينة المنورة؛ لأن النصرة إذا حدثت في مكة المكرمة فسيقول الناس: إن أهل محمد في مكة جاءوا برجل ليفرضوه على الناس.
ونلاحظ في هذه الهجرة أمورًا عجيبة لا يمكن أن نجعلها من تخطيط البشر: فالرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الطائف يطلب النصير، فعاد كسير النفس، وقد أفرغ شحنة رجائه في نصرة الخلق هناك، ولجأ إلى الله وحده يقول: «إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي».
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لتكون مهجرًا آمنًا، وهو الذي لم يقرأ تاريخ الشعوب ولا سياستها، ولكنه قال لأصحابه: «لأن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد». وصدق الواقع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدًا بأنه لا ينطق عن الهوى: {وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى}.
ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وبيعة الوفود، وكان يأخذ البيعة لله، ويعطي ثمنها الجنة للذين بايعوه، ثمنًا آجلًا لا عاجلًا. وحين يفرغ الإنسان الأسباب البشرية يكون أهلًا لعون الله بدون أسباب، فكانت بيعات العقبة الثلاث إمدادًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استنفد أسباب البشر وانكسر في الطائف.
وعرض الرسول الدعوة – وهي دعوة الله – على القوم، فمنهم من استقبلها بعقل وفكر وأناة، ومنهم من رماه بالجنون، ولا يمكن أن يكون الإنسان الذي في خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمته وصدقه وأمانته من المجانين. ومنهم من قال إنه ساحر، ولو كان ساحرًا لسحر أعداءه فآمنوا به جميعًا ولم يكفروا بما جاء به. ومنهم من قال: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا}.
ولا يزال بعض أعداء الإسلام يرددون أن الإسلام ثورة من الأدنى على الأعلى، ولكنه في الحقيقة تصحيح لمسار أهل الأرض، وخروج بالناس من مرادهم إلى مراد الله سبحانه وتعالى.
فقد تنازل الأنصار للمهاجرين عن نصف أموالهم اختيارًا لا إجبارًا، وتقاسموا ما عندهم طواعية، بل إن بعض المهاجرين رفض قبول مقاسمة أخيه الأنصاري فيما عنده.
وكانت الهجرة المباركة تربية عقدية للمؤمنين، كما كان الإسراء – وهو مخالف لنواميس الكون – امتحانًا للعقيدة؛ فمن لم تصح عقيدته لا حاجة لنا به، ومن صحت عقيدته أصبح أهلًا لهذه العقيدة.
وكان أول الذين صحت عقيدتهم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، الذي أخبره الناس بالإسراء، فقال قبل أن يلقى النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم: والله، إن كان قد قال ذلك فقد صدق. وبذا أصبح أبو بكر أحق الناس بأن يكون رفيق الهجرة، ولهذا لُقِّب بالصديق.